كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقوله تعالى لنبيه {اتق الله} [الأحزاب: 1] هذه نسبة كلامية من الله لرسوله، ليحدث مدلول هذا الأمر، وهو التقوى، لكن أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم غير تقي حتى يأمره ربه بالتقوى؟
نقول: ليس بالضرورة أنْ يكون الرسول عصى، فيأمره الله بتقواه، لكن الحق سبحانه ينشئ مع رسوله كلامًا بداية دون سابقة عصيان. أو: أنه الأمر الأول بالتقوى كما تقول لولدك في بداية الدراسة: اجتهد وذاكر دروسك، وأنت تعرف أنه مجتهد، لكن لابد من تقرير المبدأ في بداية الأمر.
ثم إن الحدث يحدث في أزمنة ثلاثة: ماضٍ وحال ومستقبل، فإذا طلب من شخص فعل شيء هو مقيم عليه بالفعل كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُوا آمنُوا بالله وَرَسُوله} [النساء: 136].
فالحق سبحانه يأمرهم بالإيمان، مع أنه وصفهم وخاطبهم بلفظ الإيمان؛ لأن المعني: أنتم آمنتم قبل أنْ أُكلمكم، وهذا الإيمان السابق لكلامي ماضٍ، وأنا أريد منكم أنْ تُحدثوا إيمانًا جديدًا، حالًا ومستقبلًا، أريد أنْ تُجدّدوا إيمانكم، وأنْ تستَمروا عليه.
فمعنى {يا أيها النبي اتق الله} [الأحزاب: 1] أي: واصل تقواك حالًا، كما فعلتها سابقًا، وواصلها مستقبلًا، فلا تنقطع عنها أبدًا.
أو: أن تقوى الله أمر يلصق الإنسانَ بربه، والله كلَّف بأشياء، ثم أباح لك من جنس التكليف أشياء، فإذا قال الله لرسوله {اتق الله} [الأحزاب: 1] فهي غير قوله لنا: اتقوا الله، فالأمر لنا نحن بالتقوى، أي: نفّذ ما فُرض عليك، أما في حق رسول الله فهي بمعنى: ادخل في مقام الإحسان، وجدَّده دائمًا؛ لأن مراقي القبول من الله لا تنتهي، كما أن كمالات العطاء في الله لا تنتهي.
لذلك قال صلى الله عليه وسلم: «من استوى يوماه فهو مغبون» أي: من استوى يومه مع أمسه في قُرْبه من الله فهو خاسر، لماذا؟ لأنه ينبغي للمؤمن أنْ يزيد في قُرْبه وفي مودته، وعلاقته بالله يومًا بعد يوم؛ لأن نعَم الله عليك متوالية تستوجب شكرًا متواليًا، وحمدًا دائمًا.
كما أن الحق سبحانه لا يكتفي من رسوله بما يكتفي به من سائر الخلق، إذن: فالتقوى بالنسبة لرسول الله غير التقوى بالنسبة لسائر الخَلْق، التقوى في حق رسول الله مجالها أوسع، وللرسول مع الله فيوضات لا تنتهي.
لذلك حين يناديك ربك للصلاة في كل يوم خمس مرات، فاعلم أن فضله عليك غير مكرر، بل فضله متجدد، فعطاؤه لك في الظهر غير عطائه لك في العصر، غير عطائه لك في المغرب، وهكذا تكون التقوى عملًا متواصلًا ممتدًا.
ولذلك يحذرنا أهل الخير أن نداوم مع الله في شيء من الطاعة، ثم نقصر عنها، كذلك يحذرنا الشرع أنْ ننذر الله ما لا نستطيع الوفاء به، لأنك بالنذر تفرض على نفسك الطاعة، فأجملْ بك أنْ تظل في مقام التطوع، إنْ خفّت نفسك للطاعة أدّها، وإنْ قصُرت فلا شيء عليك.
وكونك تفرض على نفسك شيئًا من الطاعات من جنس ما فرض الله عليك. يعني: أنك أحببتَ الطاعة وحَلَتْ لك العبادة، حتى زدتَ الله منها، فقلت مثلًا: نذرتُ لله أن أصلي من الركعات كذا، أو أتصدَّق بكذا من المال؛ لأنك رأيتَ في الصلوات الخمس إشراقات وفيوضات من الله فزدْتَ منها.
والحق سبحانه يطلب منا حين ينادينا للصلاة أنْ نسعى للمسجد، ومع أن الأرض كلها مسجد وكلها طهور، لكن المسجد خُصّص للصلاة، فينبغي أنْ تُؤدَّى فيه، وأنت في صلاة ما دُمْتَ تسعى للصلاة، فمَنْ كان بعيد البيت عن المسجد عليه أنْ يأتي الصلاة في سكينة ووقار، ولا يخرج عن هذا السَّمْت حتى وإنْ تأخر عن تكبيرة الإحرام.
وقد ورد في حديث سيدنا رسول الله: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلُّوا وما فاتكم فأتموا».
وهناك مطلوب إيمان ومطلوب إحسان: مطلوب الإيمان هو ما فرضه الله عليك، وجاء في الحديث القدسي: «ما تقرَّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إلىّ مما افترضته عليه» فإنْ أردتَ أن تتقرب إلى الله فتقرَّب إليه بما يحب، ومن جنس ما فرضه عليك، فالله أمرك بصلاة وصيام وزكاة، فإنْ حَلَتْ لك هذه العبادات فزدْ منها فوق ما فرضه الله عليك، وحين تزيد اعرف أنه مسَّتْكَ نورانية الإشراق في العبادة فقلت: الله يستحق مني فوق ما كلَّفني، وهذا هو مقام الإحسان.
وسبق أنْ تحدثنا عن هذا المعنى في قوله تعالى: {إنَّ المتقين في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخذينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلكَ مُحْسنينَ كَانُوا قَليلًا مّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفرُونَ} [الذاريات: 15-18].
وهل فرض الله على عبده ألاَّ يهجع إلا قليلًا من الليل؟ لا بل لك أنْ تُصلي العشاء، وتنام حتى صلاة الفجر، كذلك في الاستغفار، أما الذي لا يهجع من الليل إلا قليلًا ويقوم في السَّحَر للاستغفار، فلابد أنه حَلَتْ له العبادة، وحلا له الوقوف في حضرة ربه- عز وجل- فدخل في مقام الإحسان.
ثم الإحسان نوعان: إحسان كم، وإحسان كيف، إحسان الكم بأنْ تزيد على ما فُرض عليك، فتصلي فوق الفرض وتُزكّي فوق الفرض، أما إحسان الكيف فبأنْ تخلص في عبادتك لله، وأنْ تعبد الله كأنك تراه، فإنْ لم تكُنْ تراه فإنه يراك يعني: إذا لم يكُن لديك الإشراق والشفافية التي تريك الله، فلا أقلَّ من أنْ تعبده على أنه يراك.
وساعة تدخل في مقام الإحسان فأنت حرٌّ إذن فيما تقدم من الإحسان، كما قال سبحانه: {مَا عَلَى المحسنين من سَبيلٍ} [التوبة: 91] على حسب ما تخفّ نفسك للطاعة، خفَّتْ لخمس ركعات، خفَّتْ لعشر، خفَّت لخمسة بالمائة في الزكاة، خفَّتْ لعشرة. الخ أنت حر.
ألا ترى أن الحق سبحانه لما تكلم عن هذا المقام قال: {وفي أَمْوَالهمْ حَقٌّ لَّلسَّآئل والمحروم} [الذاريات: 19] أما في الزكاة المفروضة فقال: {والذين في أَمْوَالهمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ} [المعارج: 24].
إذن {يا أيها النبي اتق الله} [الأحزاب: 1] أي: تقوى تناسب مقامك من ربك؛ لأن عطاءات الله سبحانه لا تتناهى، كما أن كمالاته لا تتناهى، لذلك كان سيدنا رسول الله يقدم الليل حتى تتفطر قدماه ولما سألته السيدة عائشة: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا».
يعني: العبادة لا تكون لمجرد الثواب والمغفرة، إنما هناك درجات وارتقاءات أخرى.
والتقوى: قلنا أنْ تجعل بينك وبين ما يمكن أنْ ينشأ منه ضرر لك وقاية، لكن كيف نجعل بيننا وبين ربنا سبحانه وقاية، ومهمة التقوى أن تندمج مع الله في معيته؟ هذا في حق مَنْ يتحكم جيدًا في نفسه، ويحملها على منهج الله.
قالوا: لأن لله تعالى صفات جلال وصفات جمال، ولكل صفة منها مطلوب، فالله تعالى غفور رحيم، وهو أيضًا سبحانه القهار الجبار المنتقم، الله سبحانه هو الضار وهو النافع، إذن: فصفات الجمال هي التي تُؤتي الإنسان الخير الذي يحبه، وصفات الجلال هي التي تتسلط على مَنْ يخالف. فعلى العبد دائمًا أنْ يظل خائفًا من صفات الجلال راجيًا صفات الجمال.
إذن: تقوى الله تكون بأنْ تجعل بينك وبين صفات الجلال وقاية؛ لأنك لستَ مطيقًا لهذه الصفات، ولا تطيق مسَّة خفيفة من النار، وهي جند من جنود الله فاحذرها.
وعرفنا في مسألة الشفاعة أن الصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما، وأن الله يُشفّع بعض المؤمنين، ويُشفّع الأنبياء والملائكة، ثم بعد ذلك تبقى شفاعة أرحم الراحمين، فكيف يشفع الله عند الله؟
قالوا: أي تشفع صفات الجمال عند صفات الجلال، فحين يذنب العبد ذنبًا تتسلط عليه صفات الجلال لتعاقبه، فتتصدى لها صفات الجمال، وتشفع عندها لتسقط ما لها عنده من حق.
ثم يقول سبحانه مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلاَ تُطع الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1] فهل حين يتقي رسول الله ربه أيطيع الكافرين والمنافقين؟ قالوا: جمع القرآن بين الأمر بالتقوى والنهي عن طاعة الكافرين والمنافقين على الالتزام، تقول: أكرم فلانًا وفلانًا أيضًا، فلم تقل لا تكرم إلا فلانًا، إذن: فعطف لا تُطع الكافرين والمنافقين على {اتق الله} [الأحزاب: 1] بالالتزام.
والنبي صلى الله عليه وسلم حينما جاء جاء على نظام كوني أعده الله تعالى لخَلْقه، وحين خلق الله الخَلْق أخذ على الإنسانية كلها بكل أفرادها من آدم إلى أن تقوم الساعة- أخذ عليهم العهد {أَلَسْتُ برَبّكُمْ قَالُوا بلى} [الأعراف: 172] فشهدوا لله تعالى قبل أنْ تتهيأ لهم المعاصي والشهوات.
فإذا أصابت الناسَ غفلةٌ أو نسُوا هذا العهد بعث الله لهم من رسله مَنْ يُذكّرهم؛ لذلك خُوطب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {إنَّمَآ أَنتَ مُنذرٌ} [الرعد: 7] وقال سبحانه عن الرسل: {رُّسُلًا مُّبَشّرينَ وَمُنذرينَ} [النساء: 165] يعني: ليسوا منشئين تقوى وطاعة، إنما مذكرون بقضية معلومة سَلَفًا من الأزل، وما هم إلا مبشرين بالثواب لمن أطاع، ومنذرون بالعذاب لمن عصى، والحق سبحانه يريد من عباده أن يكونوا على ذكر دائم لهذه الحقيقة وألاَّ يغفلواعنها.
والغفلة تأتي إما من شهوة النفس أو كسلها عن مطلوب شاق للعبادة أو وسوسة من غير مطيع في أذنك، سواء أكان من شياطين الإنس أو من شياطين الجن، كما قال تعالى: {يُوحي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} [الأنعام: 112].
وقلنا: إن المنحرف يحسد المستقيم على استقامته، لكنه لا يستطيع أنْ يتحمل تبعات هذه الطاعة، فلا أقلَّ من أنْ يحاول أنْ يجذب المستقيم إليه، فيوسوس له ويصرفه عن صفة الكمال التي له؛ لذلك حين يوسوس لك صاحبك بشيء من معصية الله فأول شيء ينبغي أنْ تفطن إليه أنه يكرهك، ولا يريد لك الخير الذي يعجز هو عن إدراكه، فهو لا يريد لك أنْ تتميز عليه بشيء.
إذن: الكافرون والمنافقون الذي يصادمون دعوة الرسل لم يقدروا على أنْ يحملوا أنفسهم على منهج الله، ولا أنْ يلتزموا كما التزم المؤمنون، فلا أقلَّ من أنْ يحولوا بين المؤمنين وبين المنهج الجديد الذي جاء به رسول الله.
وقلنا: إن الرسول لم يأت إلا لضرورة، هي انطماس معالم المنهج عند المرسل إليهم، وانعدام الرادع في النفس البشرية أولًا ثم في المجتمع ككل، فالإنسان حين يغفل تُذكّره النفس اللوامة وتردُّه عن المعصية، فإذا ما ضعف سلطان هذه النفس تحكمتْ فيه النفس الأمَّارة بالسوء وصرفتْه عن الخير كله، فلم يَبْقَ له رادع إلا في المجتمع الإيماني الذي يقوم بدوره في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهذه هي ميزة الخيرية في هذه الأمة التي قال الله فيها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرجَتْ للنَّاس تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَن المنكر وَتُؤْمنُونَ بالله} [آل عمران: 110] فإذا انطمس هذا المبدأ في المجتمع أيضًا حتى لم يَعُدْ فيه آمر بمعروف ولا نآهٍ عن منكر، فلابد أنْ تتدخّل السماء بإيقاظ جديد برسول جديد، لكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم من شرفها عند ربها وشرفها برسولها أن الله منحها هذه الخيرية، بحيث لا يعدم فيها الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر أبدًا؛ لذلك لا يجيء رسول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها أمة مأمونة.
ولابُدَّ للأمة التي توفرتْ لها هذه المناعة الجماعية الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر أنْ يكون لها وَعْيٌ إيماني وفهم جيد لهذه المهمة، وقد وردت فيها مذكرة الإيضاح التفسيرية من سيدنا رسول الله حين قال: «مَنْ رأى منكم منكرًا فليُغيّره بيده، فإنْ لم يستطع فبلسانه، فإنْ لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
فالمشرّع قدَّر عدم الاستطاعة، فجعل لكل خطوة من أمر بمعروف أو نهى عن منكر مجالًا: متى أُغيّر المنكر بيدي؟ ومتى أُغيره بلساني؟ ومتى أغيره بقلبي؟
أغيره بيدي فيمن أملك الولاية عليه، حيث أتمكن من التغيير، فإنْ كان المُنْكَر ممن لا ولايةَ لي عليه، فعلىَّ أنْ أغيره بلساني في ضوء قوله تعالى: {ادع إلى سَبيل رَبّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادلْهُم بالتي هيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] بالأسلوب الحسن الجميل، لكن تجد بعض الدعاة يدعون على غير بصيرة، فيغفلون مسألة الاستطاعة، ولا يجعلون لعدم الاستطاعة مجالًا، ويميلون إلى تغيير المنكر كله باليد، وهذا مخالف لأمر رسول الله.
فإنْ توقعتَ أنْ يصيبك ضرر فلتغير المنكر بقلبك؛ لأن الهدف أن تستقطب المنحرف إلى جهة الاعتدال، وهذا لا يتم إلا باللين وبالرفق حتى تجمع عليه شدتين: الأولى أنْ تُخرجه مما يألف، والثانية: أنْ تُخرجه عما يألفه بما يكرهه.
ويخطئ الكثيرون في فهم تغيير المنكر بالقلب فيظنون مثلًا أن تقول في نفسك: اللهم إن هذا منكر لا يرضيك وأنا أنكره، هذا مجرد إنكار باللسان والله لا يريد كلمة تخرج من أفواههم، إنما يريد منا عمل القلب الذي يتبعه عمل الجوارح، فقالبك في هذا الإنكار تابع لقلبك.
فحين ترى مَن استشرى في العصيان والطغيان وأنت لا تقدر على نهيه، لا بيدكَ ولا بلسانك، ولا تستطيع مواجهته، فعليك أن تكون كارهًا لعمله معرضًا عنه، مهملًا له، فلا تجامله في حزن ولا تُهنّئه في فرح ولا تساعده إن احتاج. إلخ.
عليكْ أنْ تعزله عن مجتمعك، فإذا فعل معه الجميع هذا الفعل، وسلكوا معه هذا المسلك سقط واحده وارتدع.
لذلك لم نر النبي صلى الله عليه وسلم صنع سجنًا للمسلمين المخالفين، إنما جعل سجنهم في عزل المجتمع الإيماني لهم، أو سجن المجتمع عنهم، لا يكلمهم ولا يتعامل معهم، حتى الزوجة عزلها الشرع عن زوجها لا يقربها حتى يقضي الله في أمره.
أتذكرون قصة كعب بن مالك، وكيف عزله المجتمع الإيماني وكان من الثلاثة الذين خُلّفوا عن رسول الله في غزوة تبوك، حتى قاطعه أقرب الناس إليه، فلما تسوَّر الحديقة على ابن عمه وقال: تعلم أني أحب رسول الله فلم يرد عليه.
وتأتي زوجة هلال إلى رسول الله وقد كان أحد الثلاثة أيضًا، وتقول: يا رسول الله، إن هلالًا رجل كبير السن، ليس له ما للرجال في النساء، فقال لها: اخدميه لكن لا يقربنك. وقد ظل هؤلاء في هذه العزلة حتى أن القرآن قال فيهم: {حتى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهمُ الأرض بمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ منَ الله إلاَّ إلَيْه} [التوبة: 118].
هكذا التزم المسلمون الأوائل بشرع الله، واستطاعوا لا نقول سجن المخالف، إنما سجن المجتمع عنه، وهذه المسألة هي سبب الأزمة التي تعيشها بلدنا الآن، فالمجرم الذي يعيش بيننا، أليس معلومًا لأهل المنزل الذي يعيش فيه، بل لأهل الحي والشارع؟
فهل ذهب واحد منهم إلى تاجر فقال له: أعطني كذا فقال: لا ليس عندي وقطاعه؟ هل سلَّم واحد منهم على شخص، فلم يردّ عليه السلام؟
إذن: المجتمع كله يتحمل هذه المسئولية، ويتحمل الإثم عليها؛ لأنه تستَّر على هؤلاء، لدرجة أن نقول: إن المجتمع نفسه مجرم أكثر من المجرمين.
وينبغي قبل أنْ نتكلم عن المجرم نتكلم معه نحاوره وننصحه ونحسن إليه قبل أن نقاطعه، نفهم هذا المعنى من قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» ولم يقل على سلطان جائر. فقبل أنْ نفضحه ونُشنَّع عليه يجب أنْ نتكلم معه، وأنْ ننصحه حتى يعلم أنك تريد به الخير، وتريد أنْ ترده إلى الجادة فيقبل منك، وعلى الأقل لا يضرك، إنما آفتنا أننا نُشنّع على المجرم، وربما نُحمّله فوق الصدق الواحد ألف كذب لمجرد كراهيتنا له.
لذلك قال العربي في صفات الناس: إنْ علموا الخير أخفوه، وإنْ علموا الشر أذاعوه، وإنْ لم يعلموا كذبوا.
إذن: معنى التغيير بالقلب أن يكون قالبك موافقًا لقلبك، وهذه لا تُكلّفك شيئًا، على خلاف التغيير باليد أو باللسان؛ لذلك وصفه رسول الله بأضعف الإيمان، يعني أنها مسألة يقوم بها الضعيف.